حياة البر والفضيلة
خطورة الفضيلة الواحدة
بقلم قداسة البابا شنودة 20\6\2010
إنه خطأ يقع فيه الكثيرون، إن لم يكن غالبية الناس، أعنى
الاهتمام بفضيلة واحدة، أو التركيز على فضيلة واحدة، بأسلوب يتناقض مع
فضائل أخرى، أو تهمل فيه فضائل أخرى.
فالحياة الروحية ليست مجرد فضيلة معينة. ولكنها حياة تشمل
كل شئ... كما أن الكتاب المقدس ليسر مجرد أية واحدة، أو وصية واحدة، إنما
هو كتاب، تحدث عن الخير كله، وعن البر كله، وينبغى أن نلتفت إلى كل ما فيا
من وصايا، لكى نحيا حياة لا نقص فيها ولا صراع... لانه ربما نقص فضيلة
واحدة قد يضع الحياة كلها ...! وكما قال الرسول: إن كان لى كل الإيمان حتى
أنقل الجبال، ولكن ليس لى محبة، فلست شيئا اكو 2:13 ). تصوروا إنسانا ركز
على فضيلة واحدة عظيمة جدا هى الإيمان، ووصل إلى قمتها. ولكن نقصته المحبة،
فأصبح لا شئ!!
وبنفس الوضع الذى يجاهد حتى يصل إلى مستويات عليا فى حياة
الفضيلة والبر، وينقصه فضيلة واحدة هى التواضع... ما أسهل أن يقع فى
الكبرياء أو فى البر الذاتى أو المجد الباطل، ويهلك!!... مثال ذلك الفريسى
الذى وقف يصلى مفتخرا فى الهيكل.
كان يذهب إلى الهيكل ويصلى، وكان يصوم يومين فى الأسبوع
ويعشر جميع أمواله. ولم يكن من الناس الظالمي الخاطئين الزناة وهكذا لم
يحصل فقط على فضيلة واحدة، وإنما على جملة من الفضائل. ولكن لأنه كانت
تنقصه فضيلة الا تضاع، بل كان يفتخر بنفسه، ويدين ذلك العشار. لذلك لم يخرج
من الهيكل مبررا مثل العشار لو 14:18
وسنحاول أن نضرب أمثلة لخطورة استخدام الفضيلة الواحدة:
الوداعة
بعض الاشخاص يتمسك جدا بفضيلة الوداعة، على اعتبار أن
السيد المسيح قد قال «تعلموا منى فأنى وديع ومتواضع القلب (مت 1 29:1 )
وأيضا قوله فى العظة على الجبل طوبى للودعاه فانهم يرثون الأرض (مت 5:5 )
ويفهم الوداعة على أنه يكون باستمرار هادئا لا يغضب.
وتأتى مواقف تحتاج إلى نخوة وإلى شجاعة وشهامة، ولا يتحرك
هذا الوديع لأنه يجب أن يكون باستمرار طيبا هادئا!!
وفى تصرفه هذا لا يكون إنسانا فاضلا لأن كل مناسبة تحتاج
إلى الفضيلة التى تناسبها. وتمسك هذا الإنسان بفضيله الوداعة، بدون الشهامة
والشجاعة توقفه فى موقف الملام الناقص... وقد قال الحكيم لكل شئ زمان ولكل
أمر تحت السماوات وقت أدجا 3 : 1 .
إبراهيم أبو الآباء كان إنسانا وديعا إذ سجد أمام بنى حث،
لما أشترى منهم مغارة الكفيلة، لتكون قبرا لسارة تك 12:23 ومع ذلك ظهرت
نخوته وشجاعته لما سمع أن أخاه لوطا قد سبى، جمع رجال المدربين (تك 14:14
) وقام ضد أربعة ملوك وهزمهم ورد سبى لوط وسادوم. ولما أراد ملك سادوم أن
يكافئه ويعطيه شيئا من الغنائم رفض وقال له فى عزة نفس لا أخذن منك خيطا
ولا شراك نعل... فلا تقول أنا أغنيت إبرام (تك 23:14 ).
كان الرهبان ودعاء. ولكنهم لم يكتفوا بالوادعة وحدها. ولما
حان وقت الدفاع عن الإيمان كانوا شجعانا.
من الخطأ أن تكتفى بالوداعة، وتظن أنها تغنيك عن الشجاعة،
أو تحولك إلى جثة هامدة حركة، لا نخوة فيها ولا
شجاعة
بل تستخدم الوداعة حين تحسن الوداعة.
وتستخدم الشجاعة حن تلزم الشجاعة. تكون كلتاهما فيك، وتظهر كل منهما فى
الحين الحسن المناسب لها .
الوداعة ليس معناها الضعف. . والقوة
ليسر معناها العنف.
والوداعة والقوة تمتزج كل منهما
بالحكمة والفهم. الإنسان الضعيف لا يمكن أن يكون صورة الله ومثاله.
والإنسان القوى لا ينحرف إلى التهور ولا يفقد وداعته وأدبه.
موسى النبى كان وديعا ولكنه اضاف
إلى وداعته الشجاعة والقوة، كان وديعا إلى أبعد الحدود، إذ قيل عنه وكان
الرجل موسى حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض (عد 2 ا : 3
)، وفى نفس الوقت كان شجاعا وشهما وقويا . إذ وقف ضد الشعب كله لما عبد
العجل الذهبى ووبخ أخاه هرون رئيس الكهنه حتى خاف منه وارتبك. وأخذ العجل
الذى صنعوه وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعما، وذراه على.وجه الماء
خر 32 : 20
وداود النبى أيضا أضاف الشجاعة
والقوة إلى وداعته كان وديعا حقا . ونحن نقول فى المزمور اذكر يأرب داود
وكل دعته مز ا 3 ا : ا ولم يركن إلى الوداعة وحدها . بل لما وجد الجيش كله
خائفا أمام جليات الجبار، قال لايسقط قلب أحد بسببه (اصم 11 : 32 ) وذهب
بكل شجاعة وحاربه وقتله وأزال العار عن الشعب كله.
والسيد المسيح نفسه كان وديعا (مت
11 : 29 ) وكان قويا .
وقف ضد الكتبة والفريسيين، وقال لهم
ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون مت 23 ووقف ضد الصد وقيين
والناموسيين وأفحمهم وأخجلمم وكذلك بكت كهنة الشعب اليهودى (مت 22 . ا 2
)، وهنا ننتقل إلى فضيلة اخرى وهى الطيبة.
الطيبة
كثيرون يحاولون أن تكون لهم فضيلة
الطيبة، لأنها ميزة واضحة للأنبياء وللقديسين. ولكنهم إذ يسلكون فى طيبة
القلب وحدها، بلا إفراز وفهم كثيرا ما يصبحون ألعوبة وهزأة فى أيدى
المستهترين. كن طيب القلب. ولكن أضف إلى الطيبة فضيلة الحكمة. فقد قال
السيد المسيح كونوا بسطاء كالحمام، وحكماء كالحيات ولكن احذررا من الناس
(مت 0 ا : 6 ا . 7 ا) فكن طيبا ولكن ليس بالقدر الذى تفقد فيها كرامتك
وهيبتك وإلا فأن البعض بسببك سوف يكرهون الطيبة التى تجعل الغير
يستغلهم ويستهزئ بهم.
المشكلة إذن ليست فى الطيبة، وإنما
فى عدم مزجها بالحكمة وبقوة
الشخصية. بهذا ندرك عيب استخدام
الفضيلة الواحدة.
إذن يجب عليك أن تزن كل فضيلة
بميزان دقيق، ولا تمارسها منفردة عن باقى الفضائل. وأن رأيت من نتائجها
سلبيات اعرف أن السلبيات ليست بسبب الفضيلة، وانما بسبب وقوفها وحدها بعيدة
عن سائر الفضائل التى ينبغى أن تصاحبها وتحميها .
يمكن أن تكون طيب القلب. ولكن ليس
معنى الطيبة أن تسلم قيادتك لغيرك، أو أن تشترك بضعف شخصية فى أخطاء
الآخرين. أو أنك خوفا من أن تغضب غيرك، تشترك معه فى خطأ أو تجامله فى ذنب
واضح!
كان السيد المسيح طيب القلب جدا
وكان أيضا قويا جدا كان طيب القلب، إذ قيل عنه أنه كان لا يخاصم ولا يصيح،
ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ
(مت 2 ا : 9 ا . < 2 ) وفى نفس الوقت لم تقف وداعة وحدها وإنما إلى
جوارها شخصية قوية. إذ كان قويا فى كلامه وفى إقناعه وتأثيره. قويا فى
محبته، وفى بذله، وفى مواجهته للمواقف كان طيبا يحب الأطفال ويحنو عليهم.
ويدافع عن المرأة الخاطئة وفى نفس الوقت يخزى الذين قبضوا عليهم فينسحبون
(يو : 7 - 9 ).
فى طيبة قلب سمح للشيطان أن يجربه.
ولماذا زاد ذاك عن
حده، انتهره المسيح فى قوة قائلا
اذهب يا شيطان فمضى (مت 4 ) سمح للجنود ان ( يقبضوا عليه. وفى نفس الوقت
لما قال لهم أنا هو سقطوا على الأرض من هيبته يو 11 : 1 .
من المفروض فى الآباء والمعلمين أن
يكون فى طبعهم الحني وأيضا تكون لهم الهيبة. وليس من الصالح أن حنوهم
يفقدهم هيبتهم لعل.
لعل هذا ينقلنا إلى فضيلة أخرى هى
الحزم
الحزم
قد يقال عن راهب انه إنسان طيب يصلح
أبا ولكنه قد لا يصلح أن يكون أسقفا، إذ تنقصا الإدارة وضميره يتعبه إن أخذ
موقفا حازما أو إن انتهر أو عاقب أحدا كأنما الإدارة والحزم ضد
الروحيات!!
الإنسان الروحى يمكنه أن يجمع
الأمرين معا . ولا يستخدم
الحنو بدون حزم فمثل هذا الحنو
الخالى من الحزم يضر
ويتلف...
يوسف الصديق كان حازما جدا فى إدارة
شئون مصر وفى نفس
الوقت كان له قلب حساس مملوء من
الحنو. كان حازما جدا فى معاملتة لإخوته، حتى إنهم ارتاعوا منه وخافوا لما
قال لهم أنا يوسف. أحى أبى بعد ؟! تك 45 : 3 ومع ذلك لم يستطيع أن يضبط
نفسه لما عرف إخوته بنفسه وأطلق صوته بالبكاء تك 45 : 1 . 2
السيد المسيح كان يحب تلاميذه وكان
ينتهرهم أحيانا . قيل
إنه أحب خاصته الذين فى العالم،
أحبهم حتى المنتهى يو 13 : ا ومع ذلك لما أراد بطرس أن يمنعه عن موضوع
الصلب قائلا له 0 حاشاك يارب قال الرب لبطرس اذهب عنى يا شيطان، أنت معثرة
لى (مت 6 ا : 23 ) هنا نجد الحزم واضحا .
وبنفس الحزم وبخ الرب تلميذيه يعقوب
ويوحنا، لما رفضت قرية للسامريين أن تقبله، فقال التلميذان اتريد يارب أن
تقول أن تنزل نار من السماء فتفنيم كما فعل إيليا ايضا فالتفت الرب
وانتهرهما وقال لستما تعلمان من أى روح أنتما . لأن ابن الإنسان لم يأت
ليهلك أنفس الناس بل ليخلص 0 (لو 53:9 6 نعم فى هذه المناسبة انتهر الرب
يوحنا الذى كان يتكئ
فى حب على صدره.
من الأشياء العجيبة التى نجدها
أحيانا فى محيط الأسرة أن الأبوين قد
يوزعان الحب والحزم فيما بينهما .
فيكون الحب مثلا للأم والحزم للأب! ! بينما الحب والحزم يجب أن يتصف بهما
كل منهما . . . فإن أخطأ الابن، أو حاول أن يخطئ، تقول له الأم. . . لئلا
يغضب أبوك ويعاقبك دون أن تقول له إنها هى أيضا لا ترضى عن تصرفه. ويختلط
الامر على الابن ولا يعرف أين الحق؟ كل ما فى الأمر أنه يتقى غضب الأب ؟
ويحدث أحيانا أن كاهنا يريد أن يكسب محبة شعبه أو رئيسا يحب أن يكسب محبت
مرؤوسيه. . . من أجل هذا يتهاون الأب الكاهن فى حقوق الله. ويتهاون رئيس
العمل فى حقوق العمل ! ! ولا يضم أحدأ منهم إلى محبة الناس
محبة الله والإخلاص للعمل! !
الخدمة والتأمل
هناك خدام يركزون على خدمتهم تركيزا
كبيرا، ومن فرط انشغالهم بها يفقدون أهمية الصلاة والتأمل فى حياتهم
ويهملون روحياتهم فى تركيزهم على فضيلة واحدة هى الخدمة! ! ولا شك أن هذا
ضد التكامل فى حياة الروح.
إن السيد المسيح كان يطوف المدن
والقرى يكرز ببشارة الملكوت مت 35:9 ومع ذلك كان يقضى الليل كله فى الصلاة
وله خلوته فى جبل الزيتون يو 8 : ا وفى بستان جسيمانى... ويوحنا المعمدان
كانت له خدمته الناجحة جدا التى أعد بها الطريق أمام الرب. ومع ذلك قضى 30
سنه من حياته فى البرية
حتى ظهر لإسرائيل لو ا : 80 .
وإيليا النبى كانت له خدمته التى
قضى بها على أنبياء البعل
وأنبياء السوارى ووبخ بها آخاب
الملك امل 18 وفى نفس الوقت كانت له خلوته على جبل الكرمل.
وبولس الرسول كانت له حياة التأمل
التى صعد بها إلى السماء الثا لثة 2 كو 12 : 2 ومع ذلك كانت له خدمته
القوية التى تعب فيها أكثر من جميع الرسل اكو 5 ا : 0 ا والتى بشر بها فى
أسيا وأوربا وكتب 4 ا رسالة بل كتب رسائل وهو فى السجن
أيضا .
الإنسان المتكامل يجمع بين الحيا
تين: لا تكون الخدمة على حساب
التأمل، ولا التأمل على حساب الخدمة
ولا يكتفى بفضيلة منهما مهملا
الأخرى.
على أن موضوع الفضيلة الواحدة يبدو
أن له بقية نتابعها فى
العدد المقبل إن أحبت نعمة الرب
وعشنا .