الكتاب المقدس والنقد
هناك نوعان من النقد يطبقان على الكتاب المقدس، هما: النقد الأساسى أو نقد النصوص، والنقد الأدبى أو النقد العالى.
(أ)-النقد الأساسى أو نقد النصوص:
أى محاولة استكشاف العبارات والكلمات الأصلية للنصوص، إذ يزعمون أنها تعرضت للتغيير فى نسخها وإعادة نسخها على مدى العصور، فحتى الآن فى عصر الطباعة المتقدمة، ما تزال المطبوعات تزخر بالأخطاء رغم كثرة المراجعين المحترفين. فكم كان تسرب الأخطاء أيسر فى عصور طويلة ظلت المخطوطات فيها تنسخ باليد، كل مخطوطة على حدة. ومع ذلك فبالقراءة المتفحصة ، ومقارنة العديد من النسخ المخطوطة، يمكن-إلى حد بعيد-الوصول إلى أصل النصوص. كما أن هذا يستلزم دراسة ظروف النسَاخ، وقرب أو بعد النسخة المنقول عنها من النسخة الأصلية. ويجب أن نضع فى اعتبارنا الأخطاء الشائع وقوعها من النساخ. وهذا النوع من النقد ليس أمراً سهلاً يستطيعه أى إنسان، بل يستلزم الدراسة المدققة و المعرفة الواسعة بأساليب الكتابة وخطوطها فى مختلف العصور، مما يستلزم دراسة، ليس مخطوطات الأسفار فى لغاتها الأصلية فحسب، بل أيضاً دراسة الترجمات القديمة والاقتباسات من هذه الأسفار فى كتابات القدماء الجديرين بالثقة.
وحيث أنه لم تصلنا أى نسخة أصلية بيد أحد من الكتاب الذين استخدمهم روح الله فى كتابة الأسفار المقدسة، فإن نقد النصوص تصبح له أهمية بالغة فى دراسة هذه الأسفار.
(ب)-النقد الأدبى أو النقد العالى:
ويسمى بالنقد العالى لأنه يمثل الطبقة العليا من النقد، التى لا يمكن أن توضع إلا بعد وضع الطبقة الأساس من نقد النصوص والاطمئنان إلى سلامتها. وأول من استخدم عبارة"النقد العالى" هو"ج إكهورن"(G.J.Eichhorn) فى مقدمة الطبعة الثانية لكتابه"مقدمة للعهد القديم"(1787م) حيث يقول:"لقد وجدت نفسى مضطراً لبذل هذا القدر الكبير من الجهد فى مجال غير مسبوق حتى الآن، وهو فحص التركيب الداخلى لكل سفر من أسفار العهد القديم بمساعدة النقد العالى..."وهو يعنى "بالتركيب الداخلى"للسفر تركيبه ودراسة المصادر أو المراجع التى استخدمها الكاتب، والطريقة التى استخدمت بها هذه المصادر أو جمعت معاً. ويعرف هذا الجانب من الدراسة عادة بأنه"نقد المصدر". فالنقد الأدبى لوثيقة يتضمن أيضاً معرفة الكاتب وتاريخ الكتابة وظروفها.
ويمكن القيام بنقد المصدر بتأكيد أكبر، عندما يوجد أصل للوثيقة أقدم من النسخة موضوع الدراسة. وبالنسبة لأسفار العهد القديم فإن هذا ينطبق على سفرى أخبار الأيام، إذ أن ممن بين مراجعهما البارزة، أسفار صموئيل والملوك. وحيث أن هذه الأسفار موجودة عن مدى استخدام كاتب الأخبار لهذه المراجع.
وبالنسبة للعهد الجديد فإن الرأى الغالب هو إنجيل مرقس كان أحد المراجع الرئيسية لإنجيلى متى ولوقا، فيمكن استكشاف مدى استخدام متى ولوقا لإنجيل مرقس، حيث قد وصلت إلينا الأناجيل الثلاثة.
أما عندما لا توجد المراجع، فإن النقد العالى يصبح عسيراً. فلو أن الأناجيل الأربعة كانت قد اختفت، ولم يبق لديناسوى"الدياطسرون"(Diatessaron) -لتاتيان(من القرن الثانى بعد الميلاد)، والذى"فكك" محتويات الأناجيل الأربعة، ونسجها فى قصة متصلة، لكان من المستحيل علينا بناء الأناجيل الأربعة، على أساسه، رغم أنه من السهل أن ندرك أن "الدياطسرون" تنقصه الوحدة، وقد لا يصعب علينا أن نميز بين ما أخذه عن إنجيل يوحنا، وما أخذه من كل من الأناجيل الثلاثة الأولى دون استطاعة تجديد ما أخذه عن كل منها لشدة التشابه بين مواد الأناجيل الثلاثة، أو مواد إنجيلين على الأقل.
والأساس الذى يُبنى عليه تاريخ كتابة سفر قديم، هو أساس داخلى إلى حد ما، فإذا كان قد أُقتبس من هذا السفر، أو أشير إليه فى كتابة كاتب موثوق به ومعلوم تاريخه، فواضح أن كتابة هذا السفر قد سبقت هذا الكاتب الآخر الذى أشار إلى هذا السفر. أو قد يشير إلى أحداث يمكن معرفة تاريخها من وثائق أخرى. وهكذا يمكن تحديد تواريخ بعض أجزاء من العهد القديم من إشارتها إلى أشخاص أو أحداث فى تاريخ مصر أو بلاد بين النهرين مثلاً. كما أنها يمكن أن تذكر تاريخها كما فى بعض الأسفار النبوية التى تحدد تاريخ بعض الأقوال النبوية، أو أسماء الملوك الذين تنبأ النبى فى عهدهم . وحيث أن تاريخ الشرق الأوسط القديم، قد تزايدت باستمرار معرفتنا بكافة تفاصيله، فإن إمكانية وضع أى حادثة فى إطارها التاريخى الصحيح، تصبح أيسر وأكثر دقة.
وعندما نريد تحديد تاريخ أى نبوة، فيجب أن نعتبر النبوة سابقة للحادثة التى تنبأ عنها، لكن ليست سابقة للأحداث التى تذكر أنها قد وقعت فعلاً أو أنها كانت الخلفية التاريخية للنبوة. وعلى هذا الأساس يجب أن نحدد تاريخ نبوة ناحوم قبل تاريخ سقوط نينوى فى 612ق.م. الذى تنبأ عنه، ولكن بعد سقوط طيبة(نوآمون) فى عام663ق.م. الذى يشير إليه كحادثة ماضية(ناحوم8:3-11). ولكن فى أى سنة- من نصف القرن بين هذين التاريخين- نطق النبى بهذه النبوة، هذا ما يستلزم الدراسة الدقيقة للكلمات وأخذ كل الاحتمالات فى الاعتبار.
وتنال أســـــفار موسى الخمسة نصيباً كبيراً من النقــــــد العالى، وقد بدأ ذلك بكـتابــــــات"هب.ويتر"(H.B.Witter) فى 1711م .ج. استروك(J.astruc) فى 1753م. وقد قالا بوجود مصدرين فى الجزء الأقدم من الأسفار الخمسة، وقد أقاما هذا الرأى على تبادل استخدام الاسمين الإلهين:"يهوه"(الرب)،و"إلوهيم"(الله). وفى1780م. ربط"إيكهورن"(J.G.Echhorn) بين تغير الأسلوب واستخدام هذين الاسمين. وقد تبع هذه المرحلة الأولية من النقد العالى للأسفار الخمسة، تحليلها إلى عدد كبير من الوحدات المتماثلة"جدس"(A.geddes) فى عام 1792م،"ح.س.فاتر"(J.S.Vater) فى عام 1802م. ثم تبع ذلك نظرية"الفرض المتكامل"(إيوالد-H.Ewald فى 1843م) التى افترضت وجود وثيقة اساسية(تستخدم اسم إلوهيم)، لحقت بها وثائق قليلة أقصر منها. وفى 1853م. ميز "هـ.هبفيلد"(H.Hupfeld) بين مصدرين منفصلين، استخدم كل منهما الاسم "إلوهيم"فى سفر التكوين(وقد أطلق عليهما فيما بعد"P&E" أى كهنوتى وإلوهيمى)، وقد أصبح هذان المصدران مع "J"(يهوه)،"D " نسبة إلى سفر التثنية) هى المصادر الأربعة الرئيسية المستخدمة عند النقاد فى تحليل الأسفار الخمسة، ولكن تتباين آراؤهم، وتتفاوت تقسيماتهم تفاوتا كبيراً، فما ينسبه بعضهم إلى وثيقة أو مصدر من المصادر، ينسبه آخرون لغير ذلك، مما يدل على أنها ليست سوى مزاعم مبنية على غير أساس ثابت.
وقد جاء جيل جديد من النقاد على رأسه"ولهاوزن"J.Wellhausen) ( 1876 /1877 ) الذى جمع بين هذه المصادر والتاريخ الدينى لإسرائيل بشكل يبدو مقنعاً حتى استحوز طويلاً على فكر الكثيرين من علماء العهد القديم. ولكن ازدياد معرفتنا بتاريخ ديانات وآداب الشرق القديم-وبخاصة فى الحقبة ما بين2000- 800 ق.م. قد كشف ما فى نظرية ولهاوزن من نقاط الضعف، فتحول التفكير عن المصادر الأدبية المتميزة، إلى التاريخ المستمر لنمو التقليد فى حياة إسرائيل.
ومعظم مخطوطات العصور الوسطى بالعبرية، تكاد تكون صورة واحدة، مما يعكس جهود كتاب العصور الوسطى المعروفين باسم "الماسوريين"(500-900م)، ويسمى النص الذى حققوه باسم"النص الماسورى"، فهناك نحو ستين مخطوطة هامة من القرن الحادى عشر، تعكس جميعها النص الأساسى الواحد.
وبالإضافة إلى "شهادة" مخطوطات العصور الوسطى، ظهرت حديثاً اكتشافات لمخطوطات قديمة، كان أهمها"لفائف البحر الميت" فى وادى قمران فى 1947م.، وكان أشهرها درج سفر اشعياء، ولكن هذه اللفائف ضمنت جذاذات من كل أسفار العهد القديم ما عدا سفر أستير. وترجع أهمية هذه الكشف إلى أن هذه المخطوطات تسبق أقدم المخطوطات الماسورية بأكثر من ألف سنة. فنصوص وادى قمران كتبت جميعها قبل استيلاء الرومان على أورشليم فى 70م.
كما تم اكتشاف مخطوطات فى"وادى المربعات" على البحر الميت أيضاً ترجع إلى أيام ثورة"باركوكيا"(132-135م). وتضم المخطوطات التى وجدت هناك جذاذات من الأسفار الخمسة الأولى، وسفر إشعياء، ورقوقاً باليونانية بها أجزاء من الأنبياء الصغار. وهناك شاهد آخر على الدقة فى نقل أسفار العهد القديم من الجذاذات التى وجدت فى خزانة المعبد اليهودى بالقاهرة وترجع إلى عام 882م، وجميعها تشهد بسلامة ما بين أيدينا من نصوص.
كما أن التوراة السامرية، والترجمة السبعينية للعهد القديم من أهم الترجمات القديمة التى تشهد بسلامة نصوص أسفار العهد القديم والتوراة السامرية نسخة من أسفار موسى الخمسة مكتوبة بالحروف العبرية القديمة المستديرة، بالمقارنة مع الحروف الأرامية المربعة الحديثة. ولم يكن السامريون يقبلون سوى هذه الأسفار الخمسة التى كانوا يعتبرونها قانونية. وقد استلفتت نظر العلماء فى عام 1616م مخطوطة سامرية للتوراة، يرجحون أنها نسخة من النص العبرى الذى استخدمه السامريون بعد انفصالهم عن اليهود.
أما السبعينية فهى أقدم ترجمة يونانية للعهد القدم، إذ تمت فى القرن الثالث قبل الميلاد ( الرجا الرجوع إليها فى مادة "ترجمة" فى موضعها من "حرف التاء" بالمجلد الثانى من"دائرة المعارف الكتابية").
وهناك أيضا الترجومات الأرامية، و"البشيطة" السريانية، والترجمة اللاتينية القديمة والفولجاتا والترجمات العربية وغيرها وكلها تشهد بسلامة النص العبرى للعهد القديم. يضاف إلى ذلك كم ضخم من تفاسير وشروحات المعلمين اليهود على أسفار العهد القديم (الرجا الرجوع إلى "مخطوطات العهد القديم" فى موضعها من"حرف الخاء" بالمجلد الثالث من "دائرة المعارف الكتابية").
أما فيما يتعلق بالعهد الجديد: فمشكلة النقد البارزة تدور حول الارتباطات الداخلية بين الأناجيل المتشابهة(الأناجيل الثلاثة الأولى). وأهم خطوة حدثت فى هذا المجال، كانت عندما قال "لاشمان"(C.Lachmann) فى 1853م.إن إنجيل مرقس هو أقدم هذه الأناجيل، وإن متى ولوقا استعانا به. أما النقد فيما يختص بمصدر الإنجيل الرابع، فلا أساس له (الرجا الرجوع إلى مادة "إنجيل"، وكل إنجيل على حدة فى موضعه من حرف"أ" بالجزء الأول من "دائرة المعارف الكتابية").
ومخطوطات العهد الجديد متنوعة وعديدة، فهناك أكثر من88 بردية، 274 مخطوطة من الرقوق مكتوبة بالحروف الكبيرة المنفصلة ،2,795مخطوطة من الرقوق مكتوبة بالحروف الصغيرة المتصلة، ترجع إلى القرن العاشر وما قبله،2,209 من القراءات الكتابية(التى كانت تستخدم في العبادة) اى أن هناك اكثر من 5366 مخطوطة للعهد الجديد، وإن كان بعضها لا يشتمل إلا على بعض أجزاء فقط، كالأناجيل الأربعة مثلاً. علماً بأن 59 منها كانت تحتوى أصلاً على أسفار العهد الجديد(الرجا الرجوع إلى"مخطوطات العهد الجديد" فى موضعها من"حرف الخاء" بالجزء الثالث من "دائرة المعارف الكتابية").
وهناك الترجمات القديمة العديدة لأسفار العهد الجديد(الرجا الرجوع إلى "ترجمات العهد الجديد" فى موضعها من حرف"التاء" بالمجلد الثانى من "دائرة المعارف الكتابية"). وجميع هذه تشهد بسلامة نصوص أسفار العهد الجديد كما وصلت إلينا.