تجااااااااااااارب مسرحية
تجارب مسرحية بين التوثيق والنقد
لقد صاحب التجريب الإنسان منذ الأزل حين كان يحاول الإجابة عن تساؤلات كانت تطرح نفسها بحدة على بساطتها أو تعقيدها إلا أنها كانت المفتاح الأساسي للبحث عن إجابات اختلفت طرق ومناهج الوصول إليها ومن ثم تجسيدها.ومنذ ولد الإبداع ولد التوثيق والتسجيل حتى قبل أن يبتكر الإنسان الكتابة ويتوصل إليها كانت ثمة طرق بدائية ولكنها عصرية بالنسبة لصاحبها بالنظر إلى الزمان والمكان ،طرق كفلت له توثيق وتسجيل أهم ما كان يشعر به ،أو يصبو إلى تحقيقه ،أو ربما حتى لتخليد حياته بكل ما تحمله من تساؤلات وآمال وآلام وإبداع..لقد وعى الإنسان منذ القدم أهمية توثيق كل ما يتصل بحياته وعلى كافة المستويات. و إذا ما حاولنا الحديث عن التجريب في الإخراج المسرحي من حيث الوثائق والأدبيات فيجب أن نشير إلى أنه منذ ظهر التجريب كمصطلح في العلوم التجريبية وانتقاله بعد ذلك إلى نسيج الفنون ومن بينها المسرح ظهر التوثيق والنقد معه جنبا إلى جانب ومنذ ظهر الإخراج كان التوثيق على وجه التحديد ملازما له. وحينما نعود بذاكرتنا إلى هذه الفترة يقفز إلى الأذهان مباشرة إسم أندريه أنطوان الذي نجد أن تجاربه المسرحية أو ما يسمى بالمسرح الحر هي أول مسرح أطلق عليه مصطلح المسرح التجريبي ،حيث يرى الدارسون أن استخدام التجريب كمصطلح نقدي يعود إلى أواخر عام 1894،حين« وصفت جريدة ) (MONITEUR UNIVERSEL في الخامس من شهر مارس من العام نفسه المسرح الحر لأنطوان(**)LIBRE ANTOINE THEATRE) (بأنه مسرح يرمي في المستقبل إلى أن يكون مسرحا تجريبيا »(28).
ويعتبر المسرحي«.. الفرنسي أندريه أنطوانA-Antoine (1885-1943)الذي أسس المسرح الحر في باريس عام 1878م أول مخرج في أوروبا.كما أن كتاباته المنشورة في (أحاديث حول الإخراج)(1903).تعتبر وثيقة هامة حول بداية التفكير بالإخراج كوظيفة مستقلة ارتبطت أفكار أنطوان بالواقعية والطبيعية التي تجلت في أعماله من خلال الالتزام بالدقة التاريخية في العرض ورفض اللوحة الخلفية المرسومة بطريقة خداع البصر..واستخدام أغراض حقيقية ..كما أن أنطوان لم يعتبر الممثل مجرد أداة لإلقاء النص فقد اهتم بحركة جسده وبحضوره على الخشبة »(29).لقد كانت أحاديث حول الإخراج لأندريه أنطوان الوثيقة المنطلق إن صح التعبير بالنسبة لكل من كان يرمي إلى أن يكون له أسلوب خاص في مجال الإخراج، ولا أدل على ذلك من انتشار عدد من الفرق التي أسمت نفسها بذات الإسم في ألمانيا(فرقة المسرح الحر للناقد أوتو براهم) أو مايشابهه في روسيا (مسرح الفن بموسكو لستانسلافسكي ونيميروفيتش دانتشكو)وغيرها اقتداء بأندريه وفرقته،وسعيا إلى البحث والاستكشاف في مجال الإخراج في المسرح بما يتناسب مع روح العصر آنذاك وخروجا عن الكلاسيكيات المتوارثة.وبما أن الدراسة مقتضبة ومحدودة فلا يسعنا إلا أن نركز على تجربتين فقط للحديث عن حيثيات الوثائق والأدبيات المتعلقة بهما وهما تجربتا ستانسلافسكي،وبريخت.
ومما تجدر الإشارة إليه هو أن النقد المسرحي لم يكن في مستوى التجارب المسرحية بكل ما تحمله من خصوصية في كثير من الأحيان ؛إذ أن التعدد والاختلاف الفني الذي يتسم به الخطاب المسرحي، هو ما حدا ببعض النقاد المسرحيين إلى الاقتصار في نقدهم على الخاصية الأدبية لهذا الخطاب، حيث وقفت دراساتهم النقدية عند حدود النص المسرحي ولم تتجاوزه إلى بقية العناصر المشكلة للعرض، يقول الدكتور محمد الكغاط في هذا الصدد :«ظل النقد المسرحي فترة طويلة من الزمن نقدا أدبيا ينطلق من النصوص الدرامية ويحاول إظهار مزاياها الأدبية وتحليلها، ولم يكن هذا الاتجاه خاصا بنقاد المسرح الغربيين، فقد تبعهم في ذلك النقاد العرب... »(35) .غير أن هذه لم تكن ميزة دائمة للنقد المسرحي في القرن العشرين إذ مافتئ يستفيد مما تم التوصل إليه على صعيد النقد بصفة عامة،حيث أنه « في ظل الطفرة النوعية التي شهدتها هذه الأبحاث والدراسات العلمية والإنسانية في شتى أصناف المعرفة كان..[لكل ذلك] الأثر البالغ في ظهور مجموعة من المناهج والآليات التحليلية الجديدة التي استوعبها النقد المسرحي وأثّرت بالتالي على كيفية تعامله مع الخطاب المسرحي نصا كان أم عرضا، لذلك أصبح النقد المسرحي الحديث يعتمد على نماذج ومناهج تحليلية متعددة ومتباينة تراعي أولا وقبل كل شيء خصوصية الظاهرة المسرحية وتأخذ بعين الاعتبار خاصيتي المسرحية والتمسرح اللتين تتسم بهما هذه الظاهرة وتميزها نصا عن بقية الظواهر الإبداعية والفنية الأخرى»(36) .
بريشت ومسرحه الملحمي(الوثائق والأدبيات
):
يعتبر برتولد بريخت من أكبر وأشهر كتّاب ومنظري المسرح في القرن العشرين حيث ترك بصماته على اتجاهات المسرح المعاصر كتابة وإخراجا.وقد عاش في النصف الأول من هذا القرن المليء بالمتغيرات والأحداث التي كان لها الأثر الجلي والواضح في إبداعاته ،بل إن السياسة كانت جزءا لا يتجزأ من اهتماماته واضطلع بمهمة الثورة الاجتماعية عبر مسرحه.ولقد بدا واضحا من خلال أعماله أنه ينتصر لنظرية التزام الفن المسرحي وفعاليته الاجتماعية على حساب نظرية القيمة الفنية ،ويقول في هذا الصدد« ...لا شك أن استقصاء تاريخيا حول تأثيرات الفن ،سيظهر لنا أن كل تبدل جديد يطرأ على هذه التأثيرات، يكون مرتبطا بالتغيرات الحاصلة في الوعي الإنساني ،وهذه التغيرات بدورها ،إنما تنتج بالارتباط مع التغيرات الحاصلة في البنية التحتية الاقتصادية السياسية للمجتمع »(37)وإن كان بريشت من جهة أخرى لا يهمل الجانب الفني في العمل المسرحي ولا أدل على ذلك من ابتكاره للمسرح الملحمي ووضعه لقانون هذا المسرح الذي يقف كنقيض للمسرح الدرامي.
فبدلا من المسرح الدرامي إذا يضع بريخت تصورا جديدا للمسرح يكون فيه المتفرج جزءا فعالا ،وينطلق في ذلك من رغبته الملحة في تحرير الفن المسرحي من سيطرة الجهاز البرجوازي ،ومنحه وظيفة تربوية لنشر الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجماهير وتحريضها على الفعل الثوري ،وما دعوته تلك إلا لضرورة اقتضتها روح العصر بخلق نموذج درامي جديد يتماشى مع المتطلبات الجديدة .لقد كانت الرغبة في التجديد هي الدافع الأساسي وراء تخلي بريشت عن البناء الدرامي ابتداء من 1928وتغيير اتجاهه تغييرا شاملا منطلقا في ذلك من فلسفة أخلاقية جديدة مستوحاة من الفكر اليساري.ولم يكن ما توصل إليه بريشت ليظل حبيس فكره أو محل تطبيق في أعماله وحسب ،بل كان محل توثيق أيضا إذ عمد بريشت إلى شرح نظريته في المسرح ،نصا وإخراجا وتمثيلا في عدد من المقالات المتوالية حيث ناقش فيها فلسفة المسرح الملحمي وشكله الفني وتقنياته. وبين عامي 1947-1948 ركز أفكاره تلك «..في كتابه الشهير الأورغانون الصغير ،ولكنه لم يتوقف بعدها عن تدوين تعليقاته وملحوظاته حتى موته عام 1956.وقد تم جمع ما كتبه بريخت عن المسرح في كتاب حرره وترجمه الباحث الأمريكي جون ويليت ونشر لأول مرة عام 1957 بعنوان بريخت يتحدث عن المسرح »(38) والجدير بالذكر أنه في فترة«.. الخمسينيات،ومع انتشار طروحات المسرح السياسي في فرنسا،تبنت مجموعة من المثقفين والمفكرين مثل برنار دورت..ورولان بارت..في «مجلة المسرح الشعبي» أفكار بريشت المسرحية »(39).اتي كانت ذات أثر واضح في على المسرح في العالم.
ومن هنا فإن ما كتبه بريخت في شكل مقالات -جمعت فيما بعد في دراسة مطولة خرجت في شكل كتاب حمل عنوان الأورغانون الصغير- وما تركه من ملاحظات في شكل مقالات جمعت من قبل الباحث الأمريكي جون ويليت،أصبحت وثائق هامة كانت المنطلق بالنسبة للمسرحيين ولكل الباحثين الذين يبحثون عن الجديد.
وعموما فإن الكثير من الابتكارات أو بالأحرى الإبداعات التي كان يتوصل إليها أيّ باحث أو فنان أو منظّر مسرحي لم تكن لتمر هكذا دون أن توثق أو تسجل لتكون وثيقة يعود إليها المهتمون بفن المسرح ، أو لتنتقد في بعض الجوانب السلبية التي يمكن تحديدها عبر الدراسة النقدية الميدانية ولنأخذ على سبيل المثال ما عمد إلى إحداثه برتولد بريشت فيما يسمى بنموذج العرض وهو« تقليد أدخله [هذا] المسرحي..في فرقته البرلينر أنسامبل ..، ويتلخص في أن يتم الاحتفاظ بنموذج إخراجي لكل عرض مسرحي من خلال توثيق مراحل تحضيره بالصور الفوتوغرافية والكتابات التي تسجل النقاش الذي يدور بين القائمين على العمل والممثلين حول الشخصيات وحول الأداء ،وحول الأولويات التي يتم التوقف عندها في كل مرحلة من مراحل تنفيذ العرض ، وحول المصاعب الخاصة بكل نص .. [وغيرها] »(40)ومن الواضح أن بريشت لم يكن يقصد من وراء ذلك اعتبار النموذج الخاص بالعرض بديلا للعملية الإخراجية بقدر ما كان يهدف إلى جعل هذا النموذج وسيلة مساعدة على عمل المخرجين أو بالأحرى أداة عمل مساعدة على تحضير العمل بشكل جيد.ورغم الانتقادات التي وجهت إلى بريشت بشأن ما أحدثه ،إلا أنه أصبح أسلوبا متبعا من قبيل بعض المخرجين ، وكان لهذا الأسلوب الدور الكبير في بلورة فكرة توثيق العرض المسرحي ومراحل إعداده من منظور دراماتورجي ،وكذا ظهور نوع من المنشورات التي توثق كافة مراحل العرض المسرحي...هذا مثال فقط عمن أمثلة لاحصر لها لا يتسع المقام لذكرها .ولا يفوتني هنا أن أذكر بأن بريخت التي أضحت كتاباته وثائق هامة يعود إليها المهتمون بالفن المسرحي للاغتراف منها،عاد هو الآخر في بداية مشواره إلى كل ما كانت تكتبه الجرائد والمجلات عن المسرح وأخبار الفرق المسرحية وخاصة منها الروسية وتعرف من خلالها على ماييرخولد الذي كان يتعرض بين الفينة والأخرى إلى انتقادات كان بريخت يضيق بها ذرعا ويذكر أنه دافع عن عرض زئير الصين لمايرخولد ضد هجوم النقاد المحافظين وكان يتضايق كثيرا من المقالات النقدية الألمانية التي كانت تكتب عن عروض وإخراجات مييرخولد..والمتتبع لتاريخ تكوين بريشت يدرك أن ما كان يكتب كنقد وكتعليقات صحفية إضافة إلى زياراته ولقاءاته وما كان يشاهده كان له الأثر الكبير في تكوينه تكوينا جيدا أثمر أحد أهم المسارح المسرح الملحمي (41).