تفسير سفر ميخا
شخصية ميخا :
أثير التساؤل إن كان ميخا ينتمي إلى طبقة شيوخ مورشة، حيث وجدت جماعة "شيوخ الأرض" الذين كانوا يرددون كلماته في أيام إرميا (26: 17-18). بهذا يكون أحد القضاة الذين يجلسون عند باب المدينة ينظرون قضايا الشعب (تث 17: 5؛ 21: 19؛ را 4: 1). من هنا شعر بالالتزام أن يُدافع عن حقوق شعب مدينته الصغيرة ضد أغنياء أورشليم الظالمين. ويرى آخرون أن ميخا كان أحد أفراد عامة الشعب بالمدينة، يرجع هذا الشعب إلى الأيام الأولى لعصر داود الملك، هؤلاء يكنُّون بالولاء للأسرة الملكية؛ وهم يتشكَّكون فيمن تسللوا إلى العرش واستلموا السلطة لأجل نفعهم الخاص (2 مل 11: 18-20؛ 14: 21؛ 211: 24). يلاحظ أن ميخا النبي لم يعارض الأسرة الملكية بل أراد عودتها إلى الحياة النقية وتحقيق هدفها، لكن هذا لن يتم في أورشليم، إنما يتحقق بواسطة مولود بيت لحم (مي 4: 14-5: 4
الخلفية التاريخية
ملوك أشور المعاصرين لتلك الفترة هم تِغلث فلاسر Tighathpileser الثالث (745-727 ق.م)، شلمناسر Shalmanezer (722-705)، وسنحاريب Sennocherib (705-608). قاد سنحاريب جيشه إلى الأجزاء الجنوبية والغربية ليهوذا، مخضعًا المدن والقرى حتى بلغ أورشليم التي خضعت لحصارٍ طويل، لكنه لم يستطع الاستيلاء عليها. أما النبوة عن الأسر وخراب أورشليم هنا فتُشير إلى عصر لاحق في أيام نبوخذنصر.
أخضعت أشور كل منطقة الشرق الأوسط عدا مصر وأورشليم. على أي الأحوال لم تشغل جيوشها كل هذه الأراضي، إنما أخضعت الأمم وطالبتهم بدفع جزية. فإذا ما اعتلى عرش أشور خلف للملك كانت الممالك الخاضعة للجزية تود الثورة على أشور. لذا كان الحاكم الجديد يلتزم أن يقود جيوشه ليدخل في معارك جديدة لإخضاع الأمم الثائرة عليه. وكانت أشد المعارك هي التي تقوم عند حدود مصر التي كانت تُشجع الدول للثورة على أشور لتحمي نفسها.
خلقت هذه الظروف جوًا من الاضطرابات الشديدة وعدم الاستقرار، خاصة في المدن الصغيرة والقرى، إذ كثيرًا ما تعرضت لعبور جيش أشور عليها واستعباد سكانها. أما الأغنياء والكهنة ورجال القصر الملكي فكانوا في آمان داخل أسوار العاصمة، هؤلاء أساءوا التصرف، إذ مارسوا الظلم والقسوة على سكان المدن والقرى، فكان هؤلاء يعانون تارة من الجيوش العابرة التي تنهب وتسلب وتستعبد، وتارة من الأغنياء والقادة.
بلغت يهوذا قمة قوتها في أثناء حكم عزيا (عزاريا) حوالي عام 783- 742 ق.م. وإذ أصيب بالبرص خلفه ابنه يوثام كوصي على العرش ثم كملكٍ. كان عصره يتسم بالازدهار من جهة التعمير والإنشاء والنصرات العسكرية. تولى ابنه آحاز العرش في وقت تلألأ فيه نجم أشور في أفق العالم. هزم تلغث فلاسر سوريا عام 732، وبعد عشر سنوات استولى على السامرة. هذا الأمر أفقد يهوذا شعورها بالأمان، خاصة وأن آحاز كان ضعيفًا وأجيرًا لأشور. جاء ابنه حزقيا مصلحًا، قطع علاقته بأشور، ووضع في قلبه أن يطهر يهوذا من العبادة الوثنية ورجاساتها، وأن يقوم بتطهير الهيكل وإصلاحه. جاء في ارميا (26: 18) الخ. أن هذا الإصلاح كان من أثر كرازة ميخا.
الظروف الروحية :
عاش في وقت صعب للغاية، فقد فتح الله عن عينيه ليرى معاصي يعقوب وخطايا إسرائيل (مي 3:
. أدرك بروح النبوة ما سيحل بإسرائيل كما بيهوذا. فالظلم كان حالاً في داخل الأسوار، والأعداء قادمون من الخارج.
شعر ميخا النبي بالشرور التي لحقت بالدولتين - إسرائيل ويهوذا - وكيف أساء الأغنياء معاملاتهم مع الفقراء، فدوَّت صرخات الفقراء في السماء. هذا وقد لحق الفساد بكل الطبقات: رجال القصر الملكي، والكهنة، والشعب. أخطأت القيادات مع الشعب في حق الله، وإن كان الشعب قد مارس العبادة، لكن في شكلية بلا توبة صادقة، فصارت كلا شيء (مي 6: 7-
.
في أيامه أُخذ إسرائيل إلى السبي، وتُركت فرصة ليهوذا لمدة حوالي قرن ونصف، لكن خطايا الأمة دمَّرتها. "البرّ يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية" (أم 14: 34).
أهميته :
احتل هذا السفر مكانة خاصة لدى آباء الكنيسة لأن الأناجيل الأربعة جميعها اقتبست منه. ويُعتبر تفسير القديس چيروم من أهم التفاسير لهذا السفر.
v اتفق آباء الكنيسة في الشرق والغرب على أن هذا السفر غني برموزه، فيتطلعون مثلاً إلى جبل صهيون كرمزٍ للكنيسة أو لأورشليم الجديدة (رؤ ٢٠-٢١) التي حققت رجاء إسرائيل.
v يرى آباء الكنيسة في السفر رمزًا للعماد الذي يهب المؤمن التمتع بالعضوية في العهد الجديد، محتلاً مكان الختان.
v تضمن السفر نبوات خاصة بخراب السامرة وأورشليم، لكنه يعود فيتنبأ عن مجد أورشليم المقبل (تأديب ثم مجد مسياني).
v اهتمام الله بالبقية القليلة الأمينة، بل وبكل أحد حتى وإن فسدت الأمة ككل! كثيرًا ما يكرر النبي تعبير "البقية" (2: 12؛ 4: 7؛ 5: 3، 7-8؛ 7: 18). ففي كل الأجيال، وفي أحلك الظروف يحفظ الله البقية القليلة الأمينة بكونها له، يعتز بها.
v النبي الوحيد الذي حدد بدقة موضع ميلاد المسيَّا المنتظر، الذي يحكم أبديًا (مي 5: 2)؛ وقد أدرك اليهود أن هذه النبوة خاصة بالمسيَّا قبل ميلاده (مت 2: 1-6).
v يكشف هذا السفر عن بغض الله للخطية وحبه الشديد للخطاة، كقدوس لا يقبل الشر، وكأبٍ يحب البشرية كأولادٍ له. فهو لا يهادن الخطية مطلقًا، كما لا يجتمع النور مع الظلمة. مع عدله اللانهائي كلي الحب بذل الكلمة الإلهي المتجسد ذاته لأجل خلاص الإنسان وتجديده المستمر وتمجيده على مستوى سماوي.
v في صراحة كاملة يكشف عن الخطايا التي سقط فيها إسرائيل وأيضًا يهوذا، وعدَّدها لهم، وأعلن عن نتائجها المدمرة. وفي حب شديد يفتح أبواب التوبة ليتمتع التائبون بالمراحم الإلهية خلال التواضع مع الله (6:
.
v إن كان الأنبياء الكذبة، من أجل نفعهم الخاص، لا يبالون بما تمارسه الطبقات العليا من قهرٍ واستغلال للطبقات الدنيا الفقيرة، فليس من يقف أمام هذا التيار الخطير، لا يُمكن لله أن يصمت!
v يكشف هذا السفر عن حنو الله، فنرى ميخا النبي ينوح ويولول كمن فقد ابنًا أو ابنة وحيدة عزيزة عليه، وإذ يرى بروح النبوةٍ شعبه يُسبى يشاركهم مرارتهم، فيسير معهم حافيًا وعريانًا. هذه مشاعر رجال الله في العهدين القديم والجديد، فلا نعجب أن نقرا في رسائل القديس بولس: "أذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3).
غايته :
1. التوبة هي الطريق للخلاص مما يحل من كوارث بسبب الخطية. بدون توبة حتمًا سيحل الدمار بهم.
2. شجع المؤمنين للتطلع إلى الله العامل وسط البشرية، وأنه حتمًا يخلص من الظلم الذي يسود المجتمع.
3. وبَّخ الأغنياء الظالمين، وشجع الفقراء على التطلع إلى الله القادر أن يخلص من الظلم. يدعوه البعض "نبي الفقراء"، لا يشغل ذهنه بالسياسة، وربما لم يكن له دراية بها، إنما ما يشغله هو رفع الظلم عن الفقراء، مدافعًا عنهم. كان ميخا النبي رجل الإيمان العملي: "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب إلا أن نصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعًا مع إلهك" (6:
. فإنه لا يستطيع أحد أن يطلب الحق الإلهي، ولا أن يحب الرحمة باخوته ما لم يتضع أمام الله فينال نعمة إلهية فائقة. فمع أن ميخا النبي كما يدعوه كثير من الدارسين إنه رجل العدالة الاجتماعية والبرّ العملي، لكنه يؤكد أن هذا لن يتحقق بدون العمل الإلهي. إنه رجل الإيمان العملي!
4. سحب قلوب سامعيه من الظلم السائد والدمار المنتظر إلى حلول مملكة المسيَّا المجيدة.
5. أشار ميخا النبي إلى السبي البابلي وذكر بابل بالاسم (مي 4: 10)، وذلك قبل حدوثه بقرن ونصف. كما دعى الشعب الراجع من السبي إلى إعادة بناء أسوار أورشليم (مي 7: 11).
أسلوبه وسماته :
1. يتسم سفر ميخا بالتحرك السريع من أسلوب إلى آخر فيستخدم أسلوب السؤال والإجابة (1: 5؛ 2: 7)، والرثاء (1: 8-16)، ويُشير إلى العبادة الطقسية الواردة في أسفار موسى الخمسة موضحًا غاية الله منها (6: 6-
، واعتراف شخصي بالإيمان "لكنني أنا..." (4: 1-4)، ومحاكمات إلهية (1: 2)، وكشف عن الخطايا كحيثيات للحكم الإلهي بالخراب، ودفاع عن الفقراء، وترقب لمجيء المسيَّا المخلص.
2. كان لقرية مورشة أثرها على أسلوب ميخا النبي، فلم يقدم تصورات البرية كما في عاموس، ولا الجانب الريفي القوي لهوشع النبي، ولا الإشارة إلى القصر الملكي الذي في العاصمة كما في إشعياء. أشار ميخا النبي إلى الحقول التي يملكها القرويُّون (2: 2)، وإلى الحزم التي في البيدر (4: 12). كما تأثر بأغنياء أورشليم الذين يأتون إلى مورشة ليمارسوا الضغوط على فقرائها (6: 11)، ويغتصبون ما يشتهونه (2: 1-2؛ 6: 9-11)، فيضعون أياديهم على الحقول بسبب عجز الفلاحين عن سداد الديون (2: 2، 4). كانوا يجردون المدينين من ثيابهم (الرداء) مع أن الشريعة تلزم الدائنين أن يردوا الرداء عند الغروب (2:
.
3. لم يستخدم ميخا النبي أية حجج لتأكيد نبواته، إذ لم يلجأ إلى رؤى إلهية للتأكيد، ولا إلى شهادة رئيس الكهنة عن دعوته الإلهية كما فعل عاموس النبي (عا 7: 10-17).
4. مع بساطته ككارز ريفي يحمل أعماقًا روحية فريدة، ففي مقارنته بين تقديم ذبائح وتقدمات كثيرة للعبادة من قِبل الأغنياء، إلا أنه إذ يتطلع إلى ظلمهم للفقراء يُحسب الأغنياء مصابين بمرضٍ عديم الشفاء (مي 3؛ 6: 6-13).
5. سفر ميخا حافل بالمفارقات. تارة يتحدث عن أورشليم التي تسقط تحت السبي فتتحطم، وأخرى يرفعنا إلى أورشليم الجديدة التي تجذب الأمم إلى الرب، وتخرج منها كلمة الله إلى جميع البشر. وبالنسبة للأمم تارة يتحدث عنهم وقد سقطوا تحت الغضب الإلهي، وأخرى وهم قادمون إلى الإيمان ليتمتعوا بالبركات الإلهية.
قائمة بخطايا الأمة :
يحدد ميخا النبي خطيتين رئيسيتين وهما مزج عبادة الله الحيّ بالعبادة الوثنية مع ما تحمله من رجاسات، وممارسة الظلم وقهر الفقراء واستغلالهم.
1. عبادة الأوثان (1: 7؛ 6: 16).
2. تدبير الشر (2: 1).
3. الخداع، الشهوة، العنف (2: 2).
4. الطمع (2: 2).
5. الظلم (2: 2)
6. العنف (2: 2؛ 3: 10؛ 6: 12؛ 7: 2).
7. طرد الأرامل من بيوتهن (2: 9).
8. تشجيع الأنبياء الكذبة (2: 6، 11).
9. فساد الحكام: بغض الخير وحب الشر (3: 1-3).
10. فساد الأنبياء: الاستخفاف بالعدالة، وتحريف الحق (3: 5-7).
11. فساد الكهنة (3: 11).
12. الرشوة (3: 9، 11؛ 7: 3).
13. عدم الأمانة (6: 10-11).