للممثل فوق الخشبة، حضوره وهيمنته، وللمخرج قدرته على التأكيد والتركيز البؤري، فيبسط امام متفرجه المشهد ليقرأه بمتعة ويسر الممثل وطاقم العرض من الكومبارس يمارسون التحكم باجسادهم حتى لا يفلت المشاهدين من تلقي رسائلهم الجمالية.فالمخرج يتعامل بذكاء مع مساحاته المتخيلة ونقاطه الموهمية على الارضية وعلى مساحاته العمودية والافقية والمائلة في السينوغرافية.يحاول من خلال التمارين ان يبصر الممثلين بما ينبغي عليهم تحقيقه في العرض من فعالية فنية فيفجر طاقاتهم الابداعية الكامنة، ويدفعها في اتجاه الجدة والنشاط ويكون من خلايا الممثلين وحدة متجانسة تستغل بتكامل ضمن رقعة العرض المبنية وحداتها من مادة وحلم وتقنية والتي تؤطر تفاصيلها في لغة فنية يضخ ايقاعها الحركة والسكون والهجوم والتراجع ويخلق عالما بصريا متنوعا وجذابا.
يميز (جوته) بين مهنة التمثيل بوصفها حرفة تقام وسط حشد من المتفرجين، وبين فن التمثيل الذي يخص طبيعة الممثل نفسه بقدراته وكفاءته ومواهبه.
لذلك فالممثل يتطور فنه على انفراد كما يذهب جوته وهذا لا يعفى ممثلنا في العراق من مواكبة متطلبات مهنته وفنه، وترقية ادائه وتجويده.
ويتحفنا المخرج والمربي لي ستر اسبورج بمثال اخر، فيذكر ان (هنري ايرفنج) تجول لمدة خمسة عشر عاما ولعب مئات الادوار قبل ان يصبح خلال ليلة واحدة نجما في مسرحية (الاجراس) ماذا اذن نقول لممثل موهوب في مسرحنا العراقي وهو يتلف موهبته بركوب مراكب مختلفة تدفعه خارج فضاء الابداع بوقت مبكر! هل نذكره مثلا بواحد من المتصوفة، المرموقين مثل (ابن عربي) وبتجوا له الطويل بحثا عن الحقيقة الانسانية الناصعة؟ يتأتى اعتناء “المخرج” بـ”الممثل” من طبيعة اشتغاله الابداعي على العرض، فهو مادته الخام التي ينحت فيها اعجوبته الفنية، ويعيد تشكيلها على هيئات وتكوينات مختلفة في عروضه المتتالية.
تعترضنا في المسرح العراقي، مشكلة “الممثل” في اتجاهين:
الاول، اللياقة المسرحية، بوصفها تشكيلا جسديا فكريا .
وتثير السؤال عن كيفية البحث عن طرف للوصول الى جاهزية بدنية من خلال التمرين اليومي، الذي يغني من مهاراته، ويفتح الكامن من قدراته، بوعي خلاق.
اما “الاتجاه الثاني”: فيخص القدرة على توظيف المهارة هذه الى ما يظهرها بمظهر منسجم مع طبيعة النسق الدرامي للعرض، وفلسفته الجمالية، من خلال “اطروحة” اخراجية، متفردة، وجريئة.
ولذلك نجد في مسرحنا العراقي ــ احيانا ــ ممثلا يؤدي دوره باسلوب “رمزي” في عرض واقعي!
او نجده (واقعيا) في عرض يتطلب انسقة اشارية، وعلاماتية، تتلاءم والاسلوب التعبيري.
هذه المعالجات الادائية الخاطئة تتسبب في خلخلة بنية المنظومة المعرفية للعرض، واجناسيته “الفنية” في آن واحد!.
ومن خلال هذه المشكلات في مسرحنا، ان البعض من الممثلين الذين ترسبت لديهم، وتراكمت معالجات “كلائشية”، تكون ــ احيانا ــ خاملة او شبه ناشطة وهم ينتقلون من دور الى اخر. فيلحظ المتفرج النابه، شبها بين الادوار، اكثر من الاختلاف والتنوع المطلوبين.
وبذلك يتكرس الفني المعتاد ، اكثر من ذلك غير المرئي المفترض اكتشافه.
ومن النادر العثور على تلك القفزة النوعية في مسار الادوار، التي تؤطر فنه الابداعي، فنرى دوائر ارضية مقفلة بل منظور فني وجمالي، او رغبة في السمو الروحي الذي يدلك، قلب متفرجه بالسحر.
وفي الصنعة الثانية ان عمل المخرج العراقي نادرا ما ينصب على تحليل طبقات الكينونة الجسدية للممثل، والتعرف على آفاقها ولا يقوى على تنوير ممثله بموارده الشخصية ويلفت نظره الى مزاياه، واستقلاله الذاتي.
وهذا يضيع عليه فرصة الاهتداء الى تقويم موضوعي بعيد عن النرجسية والغرور. هناك ممثلون يضيع عليهم ثمار عملهم المهني، او التحكم بمسار تجربتهم الفنية. فيبقون لصق ارضية الخشبة، بلا احلام ولا تخيلات او حدوس فنية، تنقلهم من أفق الغريزة الى آفاق الجمال. وسبب ذلك تفريطهم بالتقنية.
ان اداء الممثل، كما يؤكد ستراسبورج ــ من غير تقنية قوية وعميقة يصبح اداء متوحشين لان الممثل في هذه الحالة يتغذى على موهبته. وللاسف يقطف بعض ممثلينا وردات عمرهم، ويهجرون فراديسهم، من غير ان يتركوا اثرا حقيقيا، يتجانس مع سنوات التجربة.
ان كثافة اللغة الفنية، تنحل او تتخلق عند الممثل “الشاب” او “الشيخ” لا فرق، تبعا لتوظيف الموهبة، ورعاية سطوتها العجيبة.
هذا الثراء، او النبيذ المعتق للروح البشري، يغني اللغة الاخراجية، ومفردات “الميزانسين”.
من المؤسف ان تجد في بعض عروضنا المسرحية ميزانسينات (العتة او البلاهة)!! فترى الممثل يهز جسده هزا، وينقل برأسه ذات اليمين وذات الشمال! ثم فجأة يقف، ليمد ساقه ثم ليثنيها، ويطوح بيديه، ويسحبها، ويستردها بعد هجر!! ثم يردف ذلك بضحكة ثم يصمت وربما يبكي!! ما قبل التمثيل. يقع على المخرج مسؤولية تحريض ممثله على الاكتشاف، وتغيير او اغناء انماط التلقي الجمالي للمتفرجين. وكما سبق لمحاكم التفتيش ان استدعت الفنان “تنتوريه” التشكيلي المعروف لانه لم يرق لها الشكل الذي رسم به (وجه) المسيح، واليوم يعد هذا الفنان موضع ترحيب الكنسية نفسها! ويبقى خاسرا من يراهن ضد الحداثة في المسرح ويقف ضد التغيير والتجدد.
الممثل يطوي المسافات وينشرها بصوته وجسده، بحلوله التصويرية المبتكرة.
هذا الاستدعاء التخيلي لأطياف الشخصيات، يربي حساسية الممثل، ويبقى التمرين الملاذ الحقيقي للتربية المسرحية الحقة.
ويتضافر الجهد الابداعي الخلاق بين المخرج والممثل تنتفي الحاجة للمعالجات الميتة، الشائخة.
جعل جوردن كريج ممثلته في دور الليدي ماكبث:
“جعلها تبلس ثوبا ممزقا كما لو كانت شنقت نفسها في سريرها، وكاد شعرها ينسدل مثل الساحرات ببلاغة ــ الميزانسين ــ يتجاوز المخرج الحلول التقليدية السقيمة.
واظهر برخت ــ بطله (جاليلو) وهو يودع تلميذه، يجلس على طاولة ويستمر بأكل الطعام وبعدها تخفت الاضاءة تباعا ليرى المتفرج ان غاليلو ما زال حيا، بعد ان ترك كل شيء.
نتمنا ان يقتنع الممثل في مسرحنا بان البلاغة يمكن ان تتحقق بالبساطة ايضا ــ لا بمبالغات تميت العرض، او معالجات شكلية مصطنعة، تخلو من الايحاء او الشعرية.
برخت نفسه ــ مثلا ــ في (دائرة الطباشير) جعل الفتاة تعبر “بالغناء” عن مشاعرها تجاه الشاب الذي تحب. اي ان غنائية الداخل ظهرت للخارج على شكل اغنية. وتغوص الام شجاعة ان في معطفها السميك بياقة مرتفعة تعبيرا عن البرد، من غير حاجة للجوء الى مؤثرات سقيمة عن سقوط الثلج!! حتى المعالجة “الطبيعية” وجدها برخت صالحة حين تحين ضرورتها في مشهد قطع (الجزر) فتسقط المياه من القدر “بطبيعية مذهلة”!! ان الاشياء وهذه الاكسسوارات تصبح ناطقة بمنهجية المخرج واطاره الفكري والابداعي، وتسند عمل الممثل.
اخيرا تذكر الممثلة (انجليكا) التي مثلت دور كاترين الخرساء في هذه المسرحية، ان برخت قد كتب “لها بالفعل كلمات الدور في البروفات” وفي العرض استبدلت الكلمات (التعبير الحركي والصراخ) (اذ كيف يمكن للمرء باستخدامه للأيدي وللأصوات، للحركة والصراخ، التعبير عن الدور) كما تقول انجليكا؟!.